"شعبية السيسي بتقل"، جملة اعتراضية تقال بشكل مستمر منذ تم خلع محمد مرسي، وفي الأغلب لم تكن العبارة حقيقة ولكنها أمنية او استعجال للثورة القادمة التي ينتظرها الاخوان للرجوع للحكم وينتظرها البعض لتحقيق يوتوبيا اشتراكية علمانية ستأتي بغض النظر عن العقل والتاريخ والثقافة.
لكن هذه العبارة بدأت تتسم بالوجاهة. فشعبية السيسي بالفعل تتراجع، ويرى أطراف مختلفة أسباب مختلفة لهذا التراجع:
-فالاخوان يرونها توبة للشعب الانقلابي ومصير حتمي إلهي حتى يرجعوا للسلطة
-اليساري يراها نتيجة انحياز ما للطبقات العليا وسياسات مناهضة لميراث عبد الناصر الاقتصادي
-الفلول يراها نتيجة انحياز السيسي لسياسات ناصرية شعبوية وهجره لمحور الأرز على المستوى الإقليمي
-الاسلامي يراها بسبب كفر السيسي وعدم مشاركته في الحرب ضد الكفار
كلها أسباب طريقة استنتاجها عكسية، فكل طرف يبدأ من النتيجة التي يريد الوصول لها ثم يحاول ترتيب أسباب لهذه النتيجة. كما ان السياق العام لكل الأطراف ينساق الى تكتيل الأحداث السيئة سواء كانت طبيعية او غير طبيعية للوصول لكتلة حرجة لخلق يناير او يونيو جديدة. ويظهر الجانب الفكاهي لهذا التكتل الجديد في تبادل القفشات بين المباركيين والاخوان او بين الشفيقي وناشط قام بحرق مقر شفيق.
فيناير ويونيو خلقوا تروما في العقلية المصرية لا تجعلها ترى سوى "الثورة" طريقا للتغير والثورة المضادة طريقا للانتقام من الثورة المضادة التي كانت انتقاما في الأساس من الثورة الاولى وهكذا في سلسلة من الثورات والأباطيل لا تنتهي. ولكن هل "الثورة القادمة" ضد السيسي فعلا ممكنة، وما نتائجها؟
لكي نعرف إمكانية ثورة جديدة ضد السيسي يجب ان نسأل إذا كانت فعلا شعبيته قلت، وإذا كانت قلت فلماذا. الإجابة بالتأكيد شعبيته قلت، لكن ليس لأسباب الاخوان ولا النشطاء ولا الفلول. ما أراه الأسباب الرئيسية لفقدان شعبية السيسي:
-تراجع السيسي من دور المخلص التاريخي الى دور الرئيس الذي يدير الدولة. ففي شكل من خلص مصر من حكم الاخوان وانتقامهم المستمر من مصر كانت له مكانة وشعبية لا يمكن مقارنتها وظهرت في نتائج الاستفتاء والانتخابات الرئاسية على الرغم من أصرار البعض على إنكار واقع هذه النتائج. كان يمكن أن يكتفي السيسي بهذا الدور لكنه من اختار خوض تجربة إدارة الدولة. ويظهر جليا دهشته شخصيا من تراجع شعبيته حين أخذ هذا الدور، فلا يوجد رئيس يحظى بشعبية ٩٠٪ او ٪ او حتى٦٠٪ لفترة طويلة
-وربما كانت احدى نجاحات السيسي سببا في بدء محاسبته كرئيس عادي، فتفكيك جماعة الاخوان المسلمين أدى لخروجها من الصورة كخطر داهم مما مكن الناس من تقييمه في ظروف اكثر طبيعية
-وكما نجح السيسي أمنيا الى حد ما، فله أخطاء كان لها صدى سيّء على المجتمع كله، كحادث الطائرة الروسية وبخاصة التعامل غير الحرفي مع توابعه اعلاميا ودبلوماسيا. ويعد غياب الشفافية في الحالة الأمنية وخاصة في سيناء علامة سيئة على اعتقاد السيسي انه يفهم اكثر وان الناس ليس لهم غير النتاج وليس التفاصيل، وهو ما يجعله يدفع الثمن كاملا حين تكون النتائج غير مرضية حتى اذا كانت الظروف غير مؤاتية
-ويدفع السيسي ايضا ثمن الصورة السيئة لجهاز الشرطة مؤخرا فعلى الرغم من المحاولات الحقيقية للمحاسبة وضبط الأداء في الداخلية فالصورة المصدرة سيئة لتداخل الأداء الأمني مع القضايا السياسية، او محاسبة الداخلية على المشاريع كما كان الحال
-ولا يوجد محل للنقاش ان تضييق الدولة مؤخرا على الآراء المعارضة اصبح خانقا كابتا لصمامات الأمان مدمرا للصورة الدولية ومنفرا للإبداع. فمن سجن لمن انتقدت سيادة خروف العيد لسجن من غلط في البخاري تحول الموضوع الى طريقة منظمة لخنق الفكر الجديد. وحتى "النشطاء" ليس من حق الدولة حبسهم عشان ضارب الويندوز والاقتراح قانون لمناهضة التعذيب. في اي سياق يكون اتهام شخص باقتراح قانون لمناهضة التعذيب فكرة ذكية حتى من ناحية العلاقات العامة؟
-لكن في رأيي مأساة السيسي الكبرى هي عدم إيمانه برأس المال الوطني او بالاستثمار او بالقطاع الخاص او اقتصاديات السوق بشكل عام. فالسياسي اطلق العنان للجهاز الاداري للدولة لخنق وكبت كل من يحاول الانتاج في البلد. وإن كنت متفهم ان من قواعد يناير ان المستثمر شرير وطماع وممكن ناخد منه فلوس كتير، فما يثير دهشتي هو دهشة السيسي من احجام وهروب الاستثمار من مصر. وإن كان السيسي يرى أن الجيش يمكن أن يكون بديلا عن اقتصاد السوق، فلماذا يشكي عدم حقيقة اعتقاده؟
المعضلة الرئيسية أن السيسي يرى نفسه قائد تاريخي صاحب رؤية ممتدة لمصر. وأنا أراه رئيس انتقالي لفترة قصيرة للغاية يؤدي دوره في ضبط الايقاع ثم يسمح للبلد بالتنفس.
المعضلة الثانوية هي ان كل الأطراف البديلة في مصر ترى مشاكل متضادة في السيسي فهم كالعادة متفقون فيم لا يريدونه لكن لا يتفقون في الحد الأدنى مما يريدون. كما أن الكثير من هذه البدائل مصاب اما بهلاوس أو بكساح. وهو أكثرنا يدعو للاكتئاب في الموقف. فالإصرار على ان صاوره مجيدة هي اللي هتشيل السيسي يغفل اختلاف السيسي عن مبارك ومرسي واختلاف ظروف البلد والظروف الإقليمية وأولا وأخيرا إرهاق الشعب وخوفه الحق من سؤال وماذا بعد في ضوء التجارب المصرية والإقليمية.
الثورة الحقيقية في مصر هي ان يتم تداول سلمي للسلطة. والطريق لنجاحها ليس سهلا ولا ممهدا، لهذا فنجاحها يعد نجاح وليس كنجاح مجيدة او نجاح عظيمة. وفي ضوء التداول السلمي للسلطة فالفلتة في مصر هو من يقترح انتخابات رئاسية مبكرة، وهو اقتراح أقل ... ذكاء حتى من اقتراح صاوره تشيل ما تخلي. فالزمن المتبقي في الفترة الأولى السيسي بالكاد تكون كافية لخلق مرشح بديل وظروف مناسبة لتسليم سلمي ديمقراطي للسلطة. نعم الحل ليس آني وليس مضمون ومفيهوش سبعين مليار ولكنه حقيقي.
بالطبع الظروف الإعلامية والسياسية ومؤسسات الدولة غير صديقة للديموقراطية. لكن الضغط يجدي، خاصة في ضوء تضرر النخبة من سياسات السيسي وبالتالي اتجاه الاعلام الخاص للمعارضة او الحياد. ففي حين بدأ موضوع إضراب الأطباء كمحاولة بائسة، تحول نتيجة المطالَب المحددة والوضوح الى مكسب أرغم الاعلام على تغيير نغمته والداخلية على تغيير أراه استراتيجي.
السنتين القادمتين قد تحتاجا الكثير من المعارك الصغيرة المماثلة للوصول لظروف ومرشح يسمح بتبادل حقيقي للسلطة. وقد يحتاج هذا من جميع الأطراف لتضحيات. فيجب علينا جميعا اعتبار قناة الشرق وقناة الجزيرة وقناة أيمن نور غير موجودة وعدم الخضوع لا لتأثيرها ولا للإبتزاز الناتج عن استغلال الاخوان لأي معارضة. فالهدف ليس ثورة شوارع وبالتالي لا يمكن للإخوان ركوبها. الهدف تغيير قواعد اللعبة عن طريق تراكم الانتصارات الصغيرة الحقيقية. وقد يتطلب ذلك من كارهي عكاشة مثلا من الناصريين والينايرجية الوقوف بجانبه لأن خلعه من المجلس كان قرارا سياسيا خلع من ناخبيه حقوقهم وسببه الحقيقي انه طالب بانتخابات مبكرة. وقد يتطلب ذلك مني ان اساند نجاد البرعي على الرغم من تأكدي من كونه المعنى المجسم للتمويل الأجنبي. فالقبض عليه بتهم وهمية يعني انه يمكن القبض علي يوما بتهمة وهمية.
الطريق صعب وأساطير يناير المؤسسة تعوق ان يحاول الناس سلوك هذا الطريق الصعب. لذا فإني ارى السيناريو الموصوف أعلاه شبه مستحيل الحدوث وستكمل البدائل في سكة محاولة استنساخ مجيدة وعظيمة.
No comments:
Post a Comment