شكل العالم يتغير، مراكز القوة تتوزع، تمركز الثروة والإنتاج لم يصبح فقط في أوروبا وأمريكا الشمالية. فصعود دول وشعوب آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية أصبح واقع لا جدال فيه، حتى أصبح لقب "العالم الغربي" غير محدد ولفظ "دول العالم الثالث" لا معنى له. فهل البرازيل والصين من ضمن دول العالم الغربي؟ وهل تصح تسمية الهند بدولة من دول العالم الثالث؟ بالتأكيد خرجت هذه الدول من قوالبها التقليدية وأصبحت جزء رئيسي ان لم يكن جزء قائد ليس فقط من اقتصاد وعلم العالم ولكن أيضا من ثقافته ومن روحه الإنسانية. ولا يقتصر الأمر على الاقتصادات الصاعدة لدول البريكس ولكن يمتد لدول كثيرة في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا باستثناء مثير لدول المسار الاشتراكي الشاڤيزي (فنزويلا وبوليفيا).
ومن الواضح ليس فقط عدم قدرة دول الغرب التقليدي على الحد من صعود القوى الجديدة أو توزع الثروة والنفوذ، ولكن أيضا مباركة ومساعدة هذه الدول في هذا النمط. فالغرب ساعد بقوة وبقصد في تطوير هذه الدول بربطها في اقتصاد عالمي شامل والاحتفاء بثقافتها واحتضان كل أشكال التعاون الاقتصادي والعلمي والثقافي معها. فالنظرية دائما التطور يخلق مصالح مشتركة والمصالح المشتركة تصنع الاستقرار وتمنع الحروب. فأسلم طريق لضمان عدم تهور العملاق الصيني في مغامرات عسكرية حمقاء هو ان يشعر الصينيون ان لديهم الكثير مما قد يخسروه والقليل الذي قد يكسبوه من هكذا مغامرة.
أين يقع العرب خاصة والمسلمون عامة من هذا التطور؟ الإجابة: خارجه. تقف بعض دول الخليج الصغيرة الغارقة في البترول كمثل للتطور ربما، لكنه تطور شكلي سطحي لا يعتمد لا على ثقافة البلاد ولا على أهلها. وتقف تركيا على حافة الهاوية وهي تلتف على ميراث الديمقراطية والعلمانية الى سلطوية دينية-شعبوية-قومية وتباطؤ اقتصادي وحرب أهلية. بينما تحاول دول جنوب شرق آسيا المسلمة القفز على قطار الصعود في منطقتها معتمدة على تعدديتها الدينية والثقافية فالإنفاق على الدعوة الوهابية في المنطقة يجعل مصير هذه الدول غير معلوم.
ما السبب في كون المسلمين في ذيل الإنسانية؟ الإجابة التقليدية في المجتمعات الإسلامية هي:
١- مؤامرة غربية لإبقاء المسلمين في حالة تخلف خوفا من قوة المسلمين إذا اتحدوا ووجدوا طريقهم للنهضة
٢-بعد المسلمين عن الاسلام الصحيح وغياب التدين الشخصي وعدم تطبيق الشريعة على مستوى الدول
سببين لا يختلف عليهم الكثير في العالم العربي. سببين لا يساندهم لا دليل واقعي ولا منطق ولا أمثلة موازية. فلم يحاول الغرب إغراق المسلمين في الفوضى بينما يحاول بناء وتقوية من هو أقوى وأكبر وأكثر تنظيما من المسلمين. لماذا يبدو الغرب مهتما بتقدم الصين وهي القوى الأعظم بمراحل من المسلمين بتاريخها وميراثها ومواردها؟ وكيف يمكن ان ترى أوروبا من مصلحتها تفكك الدول العربية على حدودها ونزوح ملايين اللاجئين المهددين لتركيبتها الثقافية والسكانية والاقتصادية. أليس من مصلحة الغرب وجود عالم عربي مستقر مساهم في الحضارة الانسانية؟ لماذا قد تهاب أمريكا اليمن بينما هي لا تهاب تشيلي؟
ولماذا كلما زاد الالتزام الديني الشخصي الاسلامي في مجتمع لم يتحسن حاله وربما تدهور. لماذا حال المدارس الاسلامية في مصر أسوأ من مثيلتها المسيحية حتى اذا حصلوا نفس المصروفات. لماذا ارتبط كل نجاح استثنائي في أي مجتمع إسلامي بليبرالية أكثر وارتبط كل تدهور بمحافظة أكثر؟ هل هي مصادفة أن ماليزيا تقف كشذوذ لحال المجتمعات الاسلامية وتقريبا نصف سكانها من غير المسلمين. هل نجاح الأقليات الغير مسلمة اقتصاديا وعلميا في المجتمعات الاسلامية مؤامرة من الحكام، ما نوع المؤامرة الشاملة الناجحة تلك التي يفشل صانعيها في حكم بلادهم بشكل فعال؟
ربما كانت الإجابة اننا في ذيل العالم لأننا مسلمين. صعب الاعتراف بذلك، لكنه مهم. وأهميته هي أنه يدعونا لتحمل مسئولية حالتنا ويمنعنا من رمي الحمل على مؤامرة مترامية الأطراف لا دليل أو قرينة عليها ولا خروج منها إلا بانتظار حروب آخر الزمان. لا جدال أن أوروبا حاربت العالم العربي وساهمت في تأخره من خلال الاستعمار، ولكن أغلب دول آسيا وإفريقيا تعرضت لنفس الاحتلال ان لم يكن أشد. لماذا تخطت هذه الدول ميراث الاستعمار؟ وهل كانت الإمبراطوريات الاسلامية المتعاقبة منارات للتقدم تركت لنا ميراث من الحقوق والحريات؟ هل ننظر للخلافة العثمانية كعصر ذهبي وكم ورثنا منها من ثورات فكرية او فقهية او علمية او ثقافية؟
هل يوجد مجتمع حديث بحجم المجتمع الاسلامي ما زال يناقش الأطر الصحيحة للرق والعبودية؟ هل الغرب مسئول عن اصرارنا كمجتمعات على رفض تساوي جميع البشر امام الدولة بغض النظر عن العرق والجنس والاعتقاد؟ هل الغرب هو من فرض علينا ان نكون المجتمع الإنساني الوحيد الذي يرى ان الناس يجب ان تقتل اذا غيرت دينها؟
الربيع العربي جاء كحادث خارج نطاق التاريخ التقليدي للعالم العربي ولذا وضع الكثير آمالا عريضة على ان يكون مدخلا لهذه المجتمعات للحاق بركب الانسانية. الخطأ القاتل هنا هو اعتقاد ان الخارطة التي اتبعتها دول الثورات الملونة يمكن تطبيقها في المجتمعات الاسلامية بغض النظر عن غياب مفاهيم المجتمع المدني والعلمانية والليبرالية الاجتماعية عن هذه المجتمعات بعكس الدول ذات الميراث الاشتراكي. وتونس تقف كالشذوذ الذي يثبت القاعدة، فنظرا لوجود ميراث من العلمانية والليبرالية والمجتمع المدني فيها فقد تمكنت من التحول بدون عوائق كبرى. أما في باقي الدول التي اصابها الربيع فكان الافتراض دائما ان القادة القدامى لحقبة القومية العربية هم السبب في تخلف المجتمعات بينما الحقيقة ان أسباب التخلف تقبع في عمق هذه المجتمعات.
فأدى الربيع الى تحلل الدول وانفجار اعتى صور القبلية والطائفية في عاصفة من العبثية التي لا تعبر عن "ميراث الفلول" قدر ما تعبر عن الفقر الثقافي والأخلاقي للمجتمعات الاسلامية. وبينما تجلت الثورات الملونة في مجتمعات اخرى في انحياز أكثر نحو الاندماج في المجتمع العالمي، فداعش هي التجلي الحقيقي للربيع العربي. داعش هي الشكل الصافي للحلم الاسلامي وما يراه المسلمون كيوتوبيا. والحلم في حقيقته كابوس من القتل والحرق والاستعباد والتطهير العرقي والفقر الثقافي وفقدان الميراث ونحر التعددية والاستقواء على الأضعف والانعزالية والفشل.
تخطي المأزق التاريخي للأمة الاسلامية يستدعي خطوات جريئة لتغيير المفاهيم الرئيسية للمسلمين. وأول خطوة هي فهم ان فكرة "الاسلام الصحيح" غير ذات صلة بالواقع فما يخص المسلمين وبقية العالم هو ما يعتقده المسلمون انه الاسلام. كما لا يهتم العالم كثيرا بما يحتويه العهد القديم من فظاعات لأنهم يدركوا ان اغلب اليهود لا يؤمنون به حرفيا. فبدلا من الجدل العميق اللانهائي عن تعريف الاسلام الصحيح، فما يهم هو ان يجد المسلمون صيغة تمكنهم من قبول الحقوق الاساسية للإنسان كمجتمعات قبل ان يطالبوا حكوماتهم بها. وقتها ربما نستطيع ان نمنح اولادنا مكانا في مواجهة تحديات مستقبل العالم والمشاركة في فرصه كجزء من المجتمع الإنساني بدلا من ان نفاجأ ان الهم الأساسي لبقية العالم في مواجهة المسلمين هو مدى ارتفاع الصور الذي ينبغي ان يبنوه ليبقونا خارجا.
No comments:
Post a Comment