التاريخ مش بيعيد نفسه. لو التاريخ بيعيد نفسه مكانش حد غلب وكان اتخاذ القرارات هيبقى أسهل بكتير. لكن التاريخ بيدينا إشارات عن أنماط معينة ممكن تحصل كذا مرة. والسبب ان الأنماط دي مرتبطة بطبيعة البشر وبطبيعة الفيزياء فلازم تحصل. لكن الأحداث مش هتتكرر، اللي هيتكرر بس هو النمط.
في أوائل القرن الماضي أوروبا كانت في حالة عدم استقرار محدش كان عارف هتطلع منها ازاي. عدم الاستقرار ده مصدره كان عدم توازن بين قوى جديدة صاعدة وقوى تقليدية مستقرة وقوى تانية تقليدية تحمل بداخلها أسباب دمارها.
القوى التقليدية المستقرة كانت فرنسا والمملكة المتحدة اللي كانوا بيتحكموا في أغلب اقتصاد العالم من خلال مستعمراتهم المترامية الأطراف ومن خلال سيطرتهم على مراكز المال والثقافة والفن في العالم. مكانش يهم انجلترا وفرنسا أي حاجة غير انهم يحافظوا على أوضاع العالم زي ما هي لأنهم الرابح الأساسي من ده.
القوى اللي كانت بتتحلل كانت الامبراطورية الروسية والامبراطورية العثمانية والامبراطورية النمساوية الهنغارية. أما روسيا فكانت بتعاني من نظام حكم مركزي في أضخم بلد في العالم وتخلف اقتصادي وعلمي وعسكري مرعب بالنسبة للدول الكبرى في غربها. الامبراطورية العثمانية كانت رجل أوروبا المريض بتحاول تحكم مجموعة من الشعوب اللي احتلتها بالقوة بمزيج عجيب من قوانين ووسائل العصور الوسطى وقوانين ووسائل القرن العشرين. وبطبيعة الحال كانت الامبراطورية في طور الحل ما بين شعوب بتنال استقلالها وبين أراضي بتاخدها منها قوى أخرى.
لكن تركيا وروسيا كانوا مثال للنظام والتقدم لو قارنتهم بالامبراطورية النمساوية الهنغارية، اللي هي أصلا جمع لأراضي وأهل امبراطوريتين بيجكموا مجموعة ضخمة من الشعوب لا يتفقوا لا في دين ولا لغة ولا ثقافة ومحدش منهم يدين بالولاء لا للنمسا ولا للمجر. سقوط الامبراطورية النمساوية الهنغارية كان حتمي.
وكل ده كان طبيعي وعدى على العالم ومركزه في أوروبا قبل كده. اللي مش طبيعي كان القوى الصاعدة اللي لقيت نفسها فجأة بإمكانيات ضخمة مش عارفة تعمل بيها أيه ومش عارفة تزاحم أوروبا ازاي. منهم مثلا اليابان اللي كانت في وسط موجة ضخمة من التقرب من الثقافة الغربية وخارجة من ثورة صناعية ضخمة وبتحارب روسيا على التحكم في الشرق الأقصى وخاصة الصين. وطبعا فيه أمريكا اللي امكاناتها كان واضح جدا انها تؤهلها لقيادة العالم لكنها كانت سايبة الدور ده للمملكة المتحدة نتيجة ميراث أمريكي من عدم التدخل في خارج حدودها.
لكن أكبر قوة صاعدة كانت سبب في عدم الاستقرار كانت المانيا. صعود المانيا كان نتيجة نظامها وروح العمل والابتكار والفن في أهلها. المانيا الموحدة، اللي كانت لسه كيان مش قديم نجحت من ساعتها في انها تبقى اسرع اقتصاد نامي في اوروبا، اكثر جيش متطور، اكبر مركز صاعد للثقافة والفنون. وده طبعا يخوف القوى التقليدية فرنسا والمملكة المتحدة ويحسس المانيا اللي من غير مستعمرات مهمة انها مخنوقة في حدود أوروبا.
أوروبا كانت مرتبطة مع بعض باتفاقيات وروابط خفية معقدة تخلي أي حرب بين طرفين تقلب حرب في القارة كلها بمستعمراتها. ونتيجة عدم استقرار الامبراطوريات القديمة الشرارة اللي كانت هتبتدي الحرب كانت حتما هتحصل.
الشرارة حصلت في اكتر مدينة غير مستقرة في اكتر اقليم غير مستقر في أوروبا: في ساراييفو. البوسنة كجزء من البلقان كانت تحت الاحتلال الهنغاري النمساوي. وولي العهد للامبراطورية فرانز فرديناند كان في زيارة للمدينة في الوقت ده. زيارة ولي العهد للمدينة صادفت ذكرى اكبر هزيمة صربية أمام العثمانيين في كوسوفو. وده زود احساس المرارة عند الصرب اللي كان عندهم نزعة للاستقلال بكل أراضي السلاف في البلقان والاتحاد ما بينهم في دولة سلافية جنوبية أو يوجو سلافيا.
فرانز فرديناند كان من اكتر الشخصيات في البلاط النمساوي المشجع لحقوق السلاف والتفاوض مع صربيا. لكن حظه السيء وقعه في مخطط للاغتيال دبرته المخابرات الصربية. بمصادفة عجيبة تمكن جافريلو برينتسيب واحد من صرب البوسنة من اغتيال ولي العهد النمساوي وزوجته صوفي دوقة هوهنبرج في سراييفو. العمل ده شافته النمسا كعمل إرهابي وصربيا كعمل وطني نفت علاقتها بيه.
النمسا اتهمت صربيا بتدبير الاغتيال (حقيقة) وطالبت صربيا بمجموعة من المطالب كان من المستحيل تنفيذها وإلا تعلن الحرب على صربيا. النمسا كانت متحالفة مع المانيا اللي كانت شايفة ان الحرب الأهلية الأوروبية القادمة لا فكاك منها. الصرب كانوا حلفاء طبيعيين لروسيا المشتركة معاهم في اللغة والدين والثقافة. وروسيا كانت مرتبطة بمعاهدات مع فرنسا اللي يربطها معاهدات مع انجلترا.
دخول النمسا حرب مع صربيا معناه دخول روسيا الحرب مع النمسا اللي معناه دخول المانيا الحرب ضد روسيا اللي معناه دخول فرنسا الحرب ضد المانيا. المانيا حسبت الحسبة وقررت ان أملها الوحيد في الهروب من كماشة هو البدء بالهجوم على فرنسا وتحييد جيشها قبل استنفار الجيش الروسي. وكان جزء من خطة المانيا دخول فرنسا من بلجيكا اللي جيشها ضعيف للالتفاف على الجيش الفرنسي على حدود المانيا بسرعة خاطفة.
الخطة فشلت، بلجيكا قاومت، وانتهاك حيادية بلجيكا أدى لدخول بريطانيا بأسطولها الضخم الحرب. ومع دخول بريطانيا دخلت معاها الهند وكندا واستراليا ونيو زيلندا. وبدأت أشنع وأبطأ حرب استنزاف شهدتها الانسانية حتى هذا الوقت استهدف فيها المدنيين قبل العسكريين واستخدم فيها الأسلحة الكيميائية لأول مرة.
مات في الحرب العالمية الأولى حوالي أربعين مليون شخص. ونتايجها كانت قاسمة. منها تحول أمريكا إلى مركز العالم بعد تدمير اقتصادات أوروبا ومنها مذابح الأرمن ورسم حدود تركيا وتدمير الامبراطورية النمساوية وبداية حركات التحرر في أفريقيا وآسيا والثورة في روسيا وصعود الشيوعية.
لكن أهم نتيجة للحرب العالمية الأولى انها حطت بذرة الحرب العالمية التانية. بعقاب المانيا ولومها منفردة على الحرب وطحن اقتصادها بتعويضات لفرنسا واقتطاع اراضيها لصالح فرنسا وبولندا تعتبر الحرب العالمية التانية الفصل التاني للحرب العالمية الأولى. المانيا عاشت في فوضى مفروضة عليها دوليا في جمهورية فايمار تحت مسمى الديمقراطية بين الحربين كان نتيجتها تطلع الشعب الالماني التواق للنظام بطبعه لتغيير الواقع المفروض عليه من اتفاقية فرساي.
وكان انتخاب هتلر.
لكن قبل الحرب العالمية التانية كان فيه حرب مهمة جدا وهي الحرب الأهلية الاسبانية. الحرب الاسبانية كانت حرب أهلية طاحنة مست كل مدينة وقرية في اسبانيا مات فيه ربع مليون وكانت ساحة لحرب ايديولوجيات اوروبا بين الفاشية والشيوعية مع دعم أجنبي لكل الطرفين في الحرب. باختصار هي كانت حرب بالوكالة كانت كل الأطراف فيها بتعمل بروفه للحرب الأهلية الأوروبية القادمة اللي هي الحرب العالمية التانية.
وحصلت الحرب العالمية التانية وخسرتها المانيا ضد امريكا وروسيا بعد ما كانت حققت نجاحات ساحقة تشابه ما كان مفروض انها تحققه في الحرب العالمية الأولى. وكان نتيجة الحرب العالمية التانية تغيير شكل العالم وصنع العالم ذو القطبين وقيام اسرائيل وظهور البترول في الخليج وانتهاء عصور الاستعمار في افريقيا وآسيا وبداية الحرب الباردة.
لكن زي ما الحرب العالمية الأولى تنبأت ان الموت في الحروب الشاملة هيكون أضعاف الماضي، الحرب العالمية التانية (اللي مات فيها ٧٣ مليون) تنبأت ان الحرب العالمية التالتة في وجود تكنولوجيا القنابل النووية هتكون نهاية العالم.
من ساعة ما جافريلو برينتسيب اغتال فرانز فرديناند فكل حاجة في تاريخنا لغاية لحظة قيام داعش أصبحت نتيجة للعمل ده. لو الزمن رجع وقدرنا نوري لبرينتسيب نتايج اللي عمله هل كان هيعمله؟
المهم ان النمط واضح، حدث كبير يتبعه حرب أهلية يتحارب فيها قوى كبرى بالوكالة ثم تيجي الحرب الكبرى لما القوى الكبرى تحس ان وقت الحرب بالوكالة خلص.
فيه حاجة بتحصل في منطقتنا شبه كده. الحرب الأولى يمكن هي احتلال العراق للكويت بما تتبعه ذلك من احتلال امريكا للعراق وترك العراق في شكل مذري من الفوضى والتفكك وفرض شروط مجحفة على سنة العراق بحجة الديمقراطية اللي هي في الحقيقة حكم الصندوق. اغتيال فرانز فرديناند يمكن يكون المناظر ليه هو تلميح السفيرة الامريكية لصدام بعدم ممانعة امريكا من احتلال العراق للكويت.
أما الحرب الأهلية بالوكالة فهي الحرب الأهلية السورية. آه عارف اسمها الثورة السورية. لا معلش هي حرب أهلية وهي في الأساس حرب طائفية بين السنة والشيعة تحارب بالوكالة عن ايران والسعودية. الحرب الأهلية السورية مشابهة للحرب الأهلية الأسبانية لحد مرعب. عدد القتلى، نمط الدمار، الجرائم ضد الانسانية في الطرفين، حتى مدتها. لكن المرة دي هي مش حرب بين الشيوعية والفاشية، هي حرب سنية شيعية. ممكن ناس تستعبط وتقول حرب بين الديمقراطية والطاغية وممكن ناس تقول هي حرب ضد الارهاب. بس هي من أول يوم حرب سنية شيعية.
ايه هو الفصل التالت في قصة الحرب الاسلامية الأهلية؟ الفصل التالت في أوروبا كان الحرب العالمية التانية. ايه الفصل التالت عندنا؟ الفصل التالت يريد الكثيرين انه يبقى حرب شيعية سنية شاملة وصريحة في المنطقة كلها. والأصوات في الطرفين اللي بتحاول تمنع ده معزولة وضعيفة. والأطراف الخارجية منقسمة اسرائيل والجمهوريين في أمريكا طبعا عايزينها حرب شاملة، وأوروبا عايزة الناس تتفاهم.
ايه اللي هيحصل لو ملالي أيران ودوائر الحكم في السعودية عملوا اللي نفسهم فيه؟ كام واحد هيموت وشكل المنطقة هيبقى ايه؟ يمكن المشكلة ان محدش عارف او ان اللي هيحصل هيحصل بالتدريج ومحدش هياخد باله الا لما الوقت يتأخر على منعه.
No comments:
Post a Comment