الربيع في الشرق
الأوسط ليس كالربيع في شرق اوروبا. الربيع في الشرق الأوسط حار خانق. الربيع في
الشرق الأوسط هو وقت غزو رياح الصحراء و الغبار و الرمال. في الربيع في الشرق
الأوسط لا يتحمل احد الآخر.
الوضع في الدول
العربية في الشرق الأوسط بعد الربيع العربي لا يمكن تفسيره بعيدا عن التاريخ. على
الرغم من كل مساوئ الاحتلال العثماني للدول العربية الا انه خلق نظاما مفتوحا يسمح
بانتقال الأشخاص و الأفكار. و على الرغم من انحسار التأثير العثماني الى تأثير
معنوي الا انها تركت ميراثا من الحد الأدنى من الحقوق للأقليات و مستوى من
الاستقرار (او الركود) الذي ادى الى ظهور مجتمعات تعددية دينيا و اثنيا و طائفيا.
و هو ما كان عليه الشرق الأوسط منذ القدم, مجتمع لا يمكن اتهامه بالنقاء في اي
اتجاه.
عندما نفضت تركيا
يدها من الشرق الأوسط و قررت انشاء دولة قومية حديثة آلت على نفسها أن تشارك في
التعددية التي تميز الشرق الأوسط. فكانت مذبحة الأرمن التي خلقت دولة نقية دينيا
في الأناضول. الا ان التعددية الاثنية ظلت رابضة تحت السطح في شكل الأكراد.
أما بالنسبة للدول
العربية فقد تركت للدول الأوروبية الاستعمارية الفائزة في الحرب العالمية الأولى
لتحديد مصيرها. و كان ترسيم الحدود بشكل عشوائي. ارسم خطا هنا و ارسم خطا هناك
لتصنع دويلات لم يكن لها ابدا مقومات الدولة القومية. كما ان الحدود لم تراع التقسيمات
الاثنية او الدينية. ارادت فرنسا ان تصنع حالة خاصة فحاولت خلق دولة تضم مسيحيي
سوريا الكبرى لحمايتهم من الأغلبية المسلمة. فكانت لبنان. لكن لم يحدث هجرة طائفية
في الاتجاهين كما حدث عند تقسيم الهند. فأصبحت لبنان التمثيل الأمثل لدول الشرق
الأوسط بكل مشاكلها. أما بريطانيا فصنعت حالة خاصة أخرى أكثر نجاحا في فلسطين.
ساعد على نجاح تكوين الدولة اليهودية العنف الشديد المتبع في التطهير العرقي (بما
يستدعي مذابح الأرمن).
أما بقية دول
الشرق الأوسط فواجهت معضلة صنع الدولة من لا شيء. و كان أمام تلك الدول عدة
اختيارات لادارة التعددية في نطاق الحدود الجديدة. و من ضمن هذه الاختيارات كانت
الحرب الأهلية. الا ان الاختيار الأساس في أغلبية الدول كان خلق هوية جديدة تسمى
القومية العربية. هذه الهوية ذات اتجاهات يسارية و ميل خفيف نحو العلمانية. الا
انها قامت بنجاح بمعالجة التنوع الطائفي في كل الدول التي تبنتها. و كان ذلك على
حساب قمع التنوع الاثني (في الأساس للأمازيغ و الأكراد و العرقيات السودانية). كما
انها انتهجت نهجا سلطويا غير ديمقراطي.
الاتجاه الآخر في
الدول العربية كان باتجاه تكوين نظم ملكية. و في صدرها كان النظام السعودي حيث
اتحدت الصدارة القبلية لآل سعود مع الثأر الشخصي لكهان الوهابية مع الأموال
المفاجأة للبترول لتخلق وحشا يبحث عن أي مكان يصب فيه تأثيره. فكان الاتجاه
للتأثير المباشر و الهيمنة من خلال الوهابية تحت عباءة ما يسمى السلفية على
المسلمين السنة اللذين يمثلون غالبية سكان العالم العربي. ثم تلا صعود السعودية
الثورة الايرانية و سعيها للسيطرة على الشيعة العرب. كما لم يتردد الغرب عن
التأثير على المسيحيين العرب. و هكذا تبدد حلم القومية العربية بخلق هوية جديدة
تجمع كل سكان الشرق الأوسط و شمال افريقيا. و ربما كانت الحرب الأهلية اللبنانية
انذار مبكر عن التفتت الطائفي و الاثني المقبل عليه العالم العربي.
الا ان موت
القومية العربية كان تدريجيا. تطلب مرحلة طويلة من الارهاب من الجماعات السنية و
احتلال خارجي للعراق ثم مجموعة من الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و المعلوماتية.
و كانت النتيجة ما يسمى بالربيع العربي الذي اضعف اكبر دولة عربية من حيث عدد
السكان و دمر تماما سوريا, اكبر دولة كانت تتمثل فيها الهوية العربية بصورتها
الخالصة. ففي سوريا تجلت تداعيات سايكس بيكو و كوارث التغير الفجائي في الربيع
العربي. فما يسمى ثورة سوريا هو كما هو واضح لكل العيان حرب طائفية. و ليس صحيحا
انها بدأت ثورة ثم تحولت لحرب بعد استخدام العنف. فهي من أول لحظة ثورة من
الأغلبية السنية على الأقليات العلوية و الشيعية و المسيحية التي احتلت المراكز
القيادية في البلاد منذ الانقلاب البعثي. و الثورة في قلبها الاخوان و يشعلها
الانتقام من مذابح الأسد الأب في حماة (التي يدعي العلويون ان لولاها لقسمت
سوريا). ثم ما هو المطلوب من 40% من سكان سوريا الغير سنة. من الطبيعي عندما
يتأملون العالم العربي و بالأخص بلدان الربيع العربي أن يصيبهم الرعب من العيش في
دولة يتحكم فيها الغالبية السنية. و لكن بشار ارتكب مذابح! عندها يتضح قرب استحالة
عيش الشعب السوري مع بعضه. ثم يطرح السؤال ما هي سوريا؟ لم لا يستقل العلويون و
المسيحيون و الأرمن بدولة تضم الجبال و التلال المحيطة باللاذقية؟ و لينعم السنة
بحقهم في حكم بقية "سوريا".
في شمال افريقيا
يوجد حالتين شاذتين مخالفة لفشل الدول العربية الغير عائمة على آبار البترول.
الحالة الأولى هي الحالة الثورية في تونس. فعلى الرغم من التردي الاقتصادي في تونس
ما بعد الثورة فهي في طريقها الى بناء دولة حديثة. فتونس هي العاصفة المثلى
للظروف. حدودها رسمت بعناية او بحظ شديد بحيث ان تونس لا يوجد بها تنوع اثني او
ديني يذكر. كما ان تونس بها مستوى عال من التعليم و الاحتكاك الشديد بالحضارة
الاوروبية. لذا فحتى اخوان تونس اصروا على دستور جامع علماني مطلق للحريات العامة
و الشخصية. كما ان تونس بها حركات ليبرالية و يسارية و عمالية فاعلة تضمن عدم استئثار
الاخوان بالحكم. اما المثال الثاني فهو الممثل للدول التي اسعدها الحظ بعدم دخول
نادي الربيع العربي و هي المغرب. المغرب غارقة في التعددية, فبها تعداد يهودي لا
بأس به كما ان جزء ضخم من السكان أمازيغ. المغرب تعاملت مع التعددية اللغوية و
الاثنية بمبدأ غريب عن العالم العربي: الاعتراف به. فالأمازيغية لغة قومية معترف
بها و الدولة ليست فقط منوطة بالسماح بالتعبير باللغات الأمازيغية و لكن أيضا
بتمكينها من خلال وسائل اعلام حكومية. أما التنوع السياسي فالمغرب اتبعت نموذجا اصلاحيا
حقيقيا يقود الى ملكية دستورية. و هذه الخطوات تمت بخطوات تدريجية لا تسمح بحالة
من الاستئثار او التعدي على التوازن المجتمعي. في هذا المجال استطاعت القوى
الاسلامية ممارسة السياسة, لا سياسة الأحزاب التي تقودك الى الجنة او سياسة تكفير
الخصوم, و لكن السياسة الحقيقية. و في هذا الاطار تساوت القوى الاسلامية مع غير
الاسلامية كبديل سياسي يستطيع الشعب اختياره في الصندوق و طرده بالصندوق بدون
التعرض لخطر دمج الدولة في الحزب أو محاولة تغيير توازن المجتمع أو مهاجمة ثقافاته
و أديانه.
التحدي الأساسي أمام
وجود الدول العربية هو إدارة التنوع. إذا ما هي الخيارات المتاحة امام دول الربيع
العربي بخاصة و أغلب الدول العربية عامة؟
1-
الدولة الحديثة: و هي بكل وضوح الدول
الديمقراطية الليبرالية العلمانية التي تعامل كل مواطنيها بمساواة بغض النظر عن
النوع أو الإثنية أو الدين. و هذه المبادئ تتقبلها (و إن كان إسما) أغلب المجتمعات
الغير مسلمة. و هذا الخيار يعتمد على المساواة و الحرية الدستورية و القانونية و
التنفيذية. هذا الحل شبه مستحيل نتيجة رفضه من أساسه لمخالفته في تصور الكثيرين
للدين الإسلامي و لمعارضة القوى السنية الإسلامية له
2-
نضوج التجربة الإسلامية: الحقوق و الحريات
الأساسية لا جدال فيها. لكن في تصور الكثير من التيارات الإسلامية فالمشكلة في
طريقة الوصول الى هذه الحقوق. في هذا التصور فإن هذه الحقوق يحتويها الإسلام و هو
قادر على ان يكون مصدرا لها بدلا من التجربة العلمانية الغربية (العلمانية
بدرجاتها مقبولة ايضا في أغلب مناطق آسيا و امريكا اللاتينية و إفريقيا). هذا
الخيار لا يبدو محتملا نتيجة سيطرة الاتجاهات السلفية على كافة الأحزاب و التجمعات
الإسلامية نتيجة تدفق أموال البترول
3-
التقسيم: و قد يكون التقسيم واضحا و حادا كما
يبدو اتجاه الأحداث في سوريا. أو قد يكون أكثر ضمنية كما يحدث في مصر. ففي مصر
يوجد كتلة قد تصل إلى ثلث السكان ترى في العيش تحت حكم التيارات الإسلامية خطرا
وجوديا عليها و على ثقافتها و طريقة حياتها. لكن نتيجة عدم الفصل الجغرافي و قلة
الأراضي الصالحة للعيش فالتقسيم الحاد قد يكون مستحيل. فالحالة الغالبة تتجه (بعد
تصفية من يستطيع الهجرة من الثلث المختلف) إلى تكوين جيتوهات و بانتوستانات غير
رسمية و غير معلنة. لتصبح مصر بحرا من التطابق يتخلله جزر من التعددية و التنوع. و
بما أن التنوع يأتي اوتوماتيكيا بحراك اقتصادي و ثقافي فهذه الجزر ستضطر لدفع نوع
من الضريبة أو الإتاوة للدولة لتسمح لها الأخيرة بالوجود. و ستقوم تلك الجزر بخلق
نظم تعليمية و ثقافية و تجارية موازية مع التعامل مع حملات دورية من العنف من
محيطها.